حزنت عندما سمعت بموت البابا وما زاد ألمي, مشاهدتي لأمي وهي تبكي بحرقة لا تتكرر كثيرا فهي ليست ممن يبكون للبكاء. تذكرت بكاءها يوم وفاة جدي.
البابا كان كجدي. فهو أكبر وأنا أصغر من أن يكون أبي.
أمي طالما حدثتني عنه ومحبته لهم أيام كانت طفلة في مدارس الأحد من شعب الكاتدرائية وقت كان فيه راهب صغير يشغل كرسي أسقف التعليم.
دموع أمي حركت في ذكرياتي مع الرجل رغم إتسامي بالجمود في مثل هذه المواقف.
تذكرت كتابه كيف تعامل الأطفال الذي قرأته في السابعة من عمري. وذهابي مع أمي للكاتدرائية لحضور الإجتماع.
تذكرت كتاباته السهلة العميقة وعظاته ومرحه وكم كان يشعرني أن الحياة يمكن ان تكون جميلة مع الله عكس ما يشاع عنها من كآبة ببشاشته وحبه لله.
تألمت جدا من كلام ليس سوى ككلام الجاهلات.
يتحدثون كمن هم أكثر حبا للمسيحيين من البابا الظالم الذي إستباح دم أولاده كما رددوا.
تحدثو عن المنافق لمبارك.
زادوا كَلِما عمن منع المسيحيين عن المشاركة الوطنية بالثورة.
كلام غبي عن تدخله بالسياسة وعزل الأقباط.
يكفي..
سأسرد ما أعرفه عن الرجل ومواقفه.
تعرض الجميع على طوال 30 عاما من حكم المخلوع لتهميش متعمد مسيحيين ومسلمين.
تعرض المسيحيين للإضطهاد على يد كلاب السلطة الذين طالما رعاهم مبارك في الساحة الخلفية لقصره.
أكمل البابا طريقه على شريط قطار بدأه السادات بإضطهاد الدولة للمسيحيين وحاول إصلاحه في عهد مبارك.
ربما شعر أنه ورط المسيحيين بموقفه من السادات الذي كان في الحق فآثر أن يخفف من عقبات تعنت الدولة لرعيته.
رجل بسيط محب يستطيع أن يحب الجميع حتى خصمه كما كان سيده. ربما غضبت من خبر إتصاله بمبارك بعد التنحي ولكن بعين التفحص تجده كان يقدر العلاقة الإنسانية غير منافق ولا متلون.
دفع البابا للعب دور السياسي المسئول دفعا وسط حالة من علاقة طيبة مع مبارك ووسط تجاهل الدولة للرعية.
ماذا تنتظر من راعي يجد الرعية متعبة ولا طبيب يمد يده بعلاج بينما وفر له أن يطلب ويعطى.
تصدر البابا المشهد فكان جسرا وحيدا وأخيرا بين مسيحيي مصر والدولة حول حقوقهم النوعية كمسيحيين.
لولا دور البابا لأنعزل المسيحيين فعليا أو هاجرو للخارج ولكن تحت تأثير البابا وغرسه للوطنية في تراب قلوب أبنائه نبتت شجرة الوطنية قوية كما تنمو الأشجار في الأراضي الوعرة, صعبة النمو لكن قوية صامدة.
طالما أن الجميع من البطش الذي نتعرض له وكيف لا نستجير بإخواننا في الدين لكن القبطان وجه الدفة لأخوة الوطن.
طالما إستغربنا صمته وإحتضانه لشيخ الأزهر بعد المذابح الطائفية تماما كما إستغربنا موقفه مع المجلس العسكري الذي غضبنا بسببه منه.
أتذكر أن البابا لم يمنعنا من النزول 25 يناير 2011. يومها حاولت أمي أن تعدلني عن موقفي من المشاركة فذكرتها بكلمة البابا " لو الولاد مصريين ما تمنعوهمش".
البابا كان يرى بلحاظ العين صعود صعاليك المجتمع وتسلقهم على جثث الشهداء والثورة مما كان دافع حتى لا يتحمس للثورة وأراه محقا.
وحقيقة لا أعرف سر تهجم بعضنا الثوار على البابا. الرجل لو أرادنا أن نلزم سكننا لأستخدم الحل والربط كما إستخدم سلطانه في منعنا من الحج للقدس. رغم أنه لم يكن متحمسا للثورة كما أشرت.
أتفهم موقف الرجل كأب يخاف على أولاده كما تفهمت محاولة منع أمي لي.
كثيرا ما أنظر الأطفال يشتكون تدخله السياسي عندما يعبر عن رأيه. حقيقة من حقه إبداء رأيه ولو كانوا بالغين لما تحفظوا حيث أنهم كانوا ليحترموا رأيه ويفعلوا ما يقدرونه صحيحا.
كثير من المسيحيين يعتبرون البابا الممثل السياسي والديني وهذا حقهم طالما هم من أعطوه الحق وطالما لم يخلط أوراق الدين بالسياسة ولم يلوِّي الآيات لأغراضه الشخصية ورؤاه.
مشهد ماسبيرو لمن لم يدرك أبعاده عليه العودة قليلا. قبلها بشهور طلب البابا من الشباب الذي إعتصم أمام ماسبيرو الإنصراف لعلمه بنية من يديرو شئون البلاد. ولطالما ظهر التعامل المعتاد: قتل إبنك وأخيه في يدينا. تقبل عزاء الأول ونخرج الأخير أم تقبل التعازي جملة.
أتذكر شاب كشف ظهره أمام المقر ليظهر تعذيبه في أمن الدولة مؤكدا تدخل البابا الذي حماه وأنقذه من براثنهم.
أتذكر الشباب الذي خرج معقما إثر التعذيب في خلفية أحداث العمرانية.
أتذكر الشباب البريء الذي أحتجزوه في قضية قتل إخوته متهمينه زورا.
ضع نفسك مكانه، أتضحي ب40 شابا ليلحقو من سبقوهم وأن تعلم أن الميزان الأرضي مالت كفته. أم ترحم دموع أمهاتهم.
كيف تلعب لعبة أصبح ميزان القوى عدوا يهددك بالأعداء.
أستطيع أن أقول أن القرار ليس فردي . 10 ملايين متوقف مصيرهم بتحرك البابا. نعاني كمسيحيين من وهن ولن نستطع تحمل إضطهادا والبابا يعلم ذلك جيدا وأشفق علينا. حتى أن جنازة شهداء ماسبيرو كانت تعج بالمسلمين والمسيحيين الشجعان لكن مجمل من نزل لتشييع البابا خوَّن الأبطال بكلمة "إيه اللي وداهم ماسبيرو"
أريد أن أذكركم أن مصر لا يتحرك فيها رجلا عند وقوع حدث طائفي.
طالما تناول الجميع الكلام عن صفقة البابا على دم أولاده في ماسبيرو بينما إمتدحوه على نفس السلوك وقت الفتن الطائفية.
طالما حاول البابا أن يبعد عن شبح الإستقواء بالخارج درءا للضغائن في النفوس. وقد تكون أكبر صفقاته خروج معتقل بريء أو إعادة بناء كنيسة. ألم تروه يتعامل بنفس الوداعة يوم وقف السفهاء ليسبوه أمام مقره في حماية قوات الجيش.
الرجل كان شريفا مترفعا عما يناله. أحب رعيته وأخلص لها فأحبته للنهاية ولكم من الشوارع الممتلئة لأجله صفحات شاهدة.
أتذكرتهكم اليهود من المسيح مصلوبا وكيف أنه لا يستدعي ملائكة السماء لتدافع عنه لو كان صادقا لكن أراه يتكرر ثانية أمام البابا.